- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠24برنامج قوانين القرآن الكريم - قناة الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
قانون الهجرة :
أعزائي المشاهدين ... أخوتي المؤمنين ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ولازلنا في قوانين القرآن الكريم ، والقانون اليوم : ( قانون الهجرة )
الهدف الأساسي من وجود الإنسان في الدنيا عبادة الله عز وجل :
أيها الأخوة الأكارم ، الإنسان أحياناً ينتقل من مكان إلى مكان ، هناك انتقالات كثيرة لا تعني شيئاً ، ولكن هناك انتقالاً يعد هجرة هو انتقال هادف ، فالنبي عليه الصلاة والسلام عاش في مكة ، لكن أهل مكة كذبوه ، ونكلوا بأصحابه ، وبالغوا بالإساءة إليه ، حتى أن الله سبحانه وتعالى سمح له أن ينتقل من مكة المكرمة إلى المدينة ، فهو المهاجر الأول وأصحابه الكرام هاجروا معه .
إذاً هناك معنىً دقيق يستنبط من الهجرة ، علة وجودك في الدنيا أن تعبد الله هذه علة أساسية ، أي الهدف الأساسي من وجود الإنسان في الدنيا أن يعبد الله ، لقوله تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
على كل إنسان أن يغادر المكان الذي يحول بينه و بين عبادته لربه :
إذا حالت بيئة أو حال مكان بينك وبين أن تعبد الله ، وقد ألغيت علة وجودك فلابد من أن تهاجر من هذا المكان الذي ألغى وجودك الإيماني ، وألغى علة وجودك ، إلى مكان آخر يمكن أن تحقق فيه وجودك ، بل يمكن أن تحقق فيه الهدف الذي خلقت من أجله .
هذه حقيقة دقيقة فنحن لو أردنا أن نوضحها بمثل :
طالب ذهب إلى بلد أجنبي ، وإلى عاصمته ليلتحق بجامعتها الكبرى في هذا البلد وينال الدكتوراه ، علاقته بهذه العاصمة على أنها متسعة ، وفيها نشاطات لا تعد ولا تحصى ، علاقته بهذه العاصمة أن يلتحق بالجامعة لينال الدكتوراه ، نقول : علة وجوده في هذه المدينة نيل هذه الشهادة ، فإذا لم يقبل في هذه الجامعة لا معنى إطلاقاً لبقائه في هذه المدينة .
فالإنسان حينما يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلقه ليعبده ، فإذا حال مكان بينك وبين أن تعبده ، فالأولى أن تبحث عن مكان آخر تحقق فيه الهدف من وجودك الذي أراده الله لك ، هذا منطلق الهجرة .
الهجرة أحد أكبر النشاطات الإيمانية :
مكة المكرمة كذبت النبي ، آذت أصحابه ، ونكلت بهم ، وسخرت منه ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حينما انتقل إلى المدينة هناك من رحب بدعوته ، ونصره ، وأعانه ، إذاً الهجرة أحد أكبر النشاطات الإيمانية .
لذلك قال الله تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
يعني ليس في الإسلام ما يسمى اليوم بالموقف السلبي ، بالإعجاب السلبي ، ليس المؤمن الذي يقنع بهذا الدين ، لكن المؤمن الذي يلتزم بأحكامه ، وما إن تستقر حقيقة الإيمان في نفس المؤمن إلا وتعبر عن نفسها بعطاء ، بالتزام ، فالمؤمن يصل لله ، ويقطع لله ، ويعطي لله ، ويمنع لله ، ويرضى لله ، ويغضب لله ، فأحد أكبر أسباب الهجرة في العالم الإسلامي هجرة في سبيل الله ، هجرة من بلد لا يستطيع أن يعبد الله فيه إلى بلد آخر يوفر له الحرية الدينية كي يعبد الله ، ويحقق الهدف من وجوده .
من حالت جهة قوية بينه وبين عبادته لله فلابد له من محاولة إصلاح المجتمع :
ولكن أيها الأخوة ، هناك آية دقيقة جداً هي الأصل في موضوع الهجرة ، هذه الآية لو تأملناها بدقة فهي ذات مدلول مستقبلي خطير ، هذه الآية يقول الله عز وجل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾
يعني ما عرفوا ربهم ، ولا عرفوا منهجه ، ولا حملوا أنفسهم على طاعته .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
يأتي الرد الإلهي :
﴿ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
لابد أيها الأخوة ، من وقفة متأنية عند كلمة
﴿ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
يعني إذا حالت جهة قوية في بلد تسكنه ، حالت بينك وبين أن تعبد الله ، بينك وبين أن تؤدي صلواتك ، بينك وبين أن تحجب بناتك ، حينما تحول جهة قوية ، بينك وبين أن تعبد الله فلابد من محاولة إصلاح المجتمع ، فإن لم تستطع فلابد من أن تغادر ، النتيجة خطيرة جداً
﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
ولكن ، أنت حينما تكون في بلد ، القوى تمنعك أن تطيع الله ، بقمع شديد لابدّ من المهاجرة من هذا البلد إلى بلد تحقق فيه ذاتك عن طريق الأداء لشعائر الله عز وجل .
للاستضعاف معنيان ؛ استضعاف أمن واستضعاف إغراء :
لكن هناك من العلماء من فهم الاستضعاف بمعنىً آخر ، حينما تكون في بلد الحريات فيه مطلقة ، ولكن الشهوات أقوى من قناعاتك ، وأقوى من إرادتك ، تضعف أمام الشهوة ، وتضيع أولادك ، ومن حولك ، هذا أيضاً نوع من الاستضعاف ، لكن هناك استضعاف قمعي ، وهناك استضعاف ذاتي ، فإذا كنت في بلد لا تستطيع أن تقيم شعائر الله من شدة الصوارف ، والعقبات ، والإغراءات ، بل إذا كنت في بلد لا تستطيع أن تضمن لأولادك سلامتهم الإيمانية ، والسلوكية .
إذاً لابدّ من أن تفكر في بلد آخر تحقق فيه ذاتك أولاً ، وتضمن فيه سلامة أهلك وأولادك ثانياً .
أيها الأخوة ، الاستضعاف إذاً له معنيان ، استضعاف أمن ، واستضعاف إغراء فأنت ينبغي أن تعرف سر وجودك ، وغاية وجودك ، والله عز وجل حينما قال :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه :
أما البشارة الطيبة ، حيث يقول الله عز وجل :
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
يعني هو في بلد دخله وفير ، حاجاته مؤمنة ، طلباته محققة ، لكن خاف على أولاده ، خاف على مصيرهم ، خاف على عقائدهم ، خاف على انتمائهم لأمتهم ، خاف على تضييع دينهم ، أموره المادية ميسرة ولكنه ضحى بكل هذه الميزات ، وأراد أن يعود إلى بلد يمكن أن يطيع الله فيه ، أو أن يطيع الله هو وأهله وأولاده ، هذه هجرة اسمها في سبيل الله قال تعال :
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ﴾
سعة في الرزق ، وكأن الله أغراه أنك إذا أدرت إرضائي أنا أضمن لك رزقاً وفيراً في البلد الذي سوف تأتي إليه ، لذلك المقولة الرائعة :
ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه .
من اتخذ قراراً مصيرياً يخدم سرّ وجوده و غاية وجوده فشأنه عظيم عند الله عز وجل :
هناك ملمح دقيق : أنت حينما تتخذ قراراً مصيرياً ، أنت حينما تتخذ قراراً يخدم سرّ وجودك ، وغاية وجودك ، أنت حينما تتخذ قراراً يضمن لك سلامة دينك ، أنت حينما تتخذ قراراً يضمن لك سلامة دين أولادك ، هذا قرار خطير ومصيري ، وهو قرار عند الله له شأن كبير ، ولكن من أجل أن ترى عظمة هذا العمل الله عز وجل يجعلك تدفع ثمنه باهظاً .
ففي أول مرحلة من الهجرة قد لا تجد ما كنت تصبو إليه من دخل وفير ، الله عز وجل قال :
﴿ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾
سوف للاستقبال ، أي لابدّ من فترة تدفع فيها الثمن ، وبعدها يأتي فرج الله عز وجل :
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾
الهجرة نوعان ؛ هجرة في سبيل الله وهجرة في سبيل الشيطان :
أيها الأخوة ، يمكن أن نقسم الهجرة إلى هجرتين ، هجرة في سبيل الله ، وهجرة في سبيل الشيطان ، إذا كنت في بلد إسلامي تعيش حياة كريمة ، حياةً تؤدى فيها العبادات التي يتمنى كل عبد أن يؤديها ، وضحيت بهذه النعمة الكبيرة ، وانتقلت إلى بلد ترتكب فيه الفواحش على قارعة الطريق ، ولا تضمن سلامة أولادك من هذه البيئة الفاسدة ، فأنت في مشكلة كبيرة يمكن أن تسمى هذه الهجرة هجرة في سبيل الشيطان .
على كلٌ باب الهجرة قد أُغلق بين مكة والمدينة ، ولكنه مفتوح على مصاريعه بين كل مدنيتين تشبهان مكة والمدينة ، وإن الهجرة من الأعمال العظيمة التي تهدم ما كان قبلها ، بل إن الهجرة في زمن الفتن ، وزمن النساء الكاسيات العاريات ، وزمن الاضطراب هذه الهجرة تعد عند الله جهاداً كبيراً ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( وإِنَّ العِبادَةَ في الهَرْج كهجرة إلي ))
يعني أنت ممكن أن تبقى في بلدك ، وأن تهجر كل منكر ، فالمهاجر من هجر المنكر ، بل إن عبادة الله في بلد عبادة دقيقة هادفة يمكن أن تعد هجرة كاملة إلى الله ورسوله .
البلاد التي حول الأقصى بلاد مباركة بنص الآية التالية وبنص الأحاديث الصحيحة :
لذلك قال :
(( بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام ))
إلى بلاد الشام بالمعنى القديم الواسع لأن الله عز وجل يقول :
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾
فالبلاد التي حول الأقصى بلاد مباركة بنص هذه الآية ، وبنص هذه الأحاديث الصحيحة .
من هاجر في سبيل الله له أجر عظيم عند ربه :
إذاً يمكن أن نعد الهجرة من مكان يعصى الله فيه ، أو لا تستطيع أن تقيم أمر الله فيه ، إلى بلد يمكن أن تعبد الله فيه عبادة متفنة أنت وأهلك ومن يلوذ بك ، تعد هذه الهجرة في سبيل الله ، ولها أجر كبير ، والهجرة كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( وأن الهجرةَ تهدِم ما كان قبلها ))
والهجرة تحقق إن شاء الله بحسب وعد الله عز وجل دخلاً وفيراً ينسيك البلد الذي كنت تنعم به بدخل كبير .
أيها الأخوة الأحباب ، هذا موضوع دقيق يحتاجه كل مسلم حينما يفكر أن ينتقل من مكان إلى مكان .
أعزائي المشاهدين إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .